سورة الانشقاق
أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين
تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الانشقاق مكية، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة، وصوَّرت الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ*}.
* ثم تحدثت عن خلق الإِنسان الذي يكدّ ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه، ليقدِّم لآخرته ما يشتهي من صالحٍ أو طالحٍ، ومن خيرٍ أو شر، ثم هناك الجزاء العادل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} الآيات.
* ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد، ويركبون الأخطار في ذلك اليوم العصيب الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إِيمانهم بالله، مع وضوح آياته وسطوع براهينه، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ* فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ(1)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(
وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ(14)بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15) }.
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سَعَةً بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أمواتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقي الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع .. وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال .. ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإِن كان شراً فشرٌّ قال أبو حيّان: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثواب وعقاب .. ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء، وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً يُجازى على حسناته، ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي ويرجع إِلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {وَيَصْلَى سَعِيرًا} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي إِنه ظنَّ لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم.
تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16)وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ(17)وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ(21)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ(22)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23)فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(25)}
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} {لا} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والهوام قال المفسرون: الليل يسكن فيه كل الخلق، ويجمع ما كان منتشراً في النهار من الخلق والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد بقوله {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوؤه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا معشر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه؟ {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس: {يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفرهم وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال ابن جزي: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر. ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.